والدي يكشف أسرار جدتي !

بسم الله الرحمن الرحيم

تعلمون أن جدتي قد توفيت الشهر الماضي، وقد ورد ذلك في تدوينتين لي هنا، هما  تعزية للاخ صاحب المرصد السينمائي “ابو الشيخ “  و  في بيت عزائنا لجدتي. وإثر وفاتها رحمها الله كتب والدي مقالة في صحيفة صوت الحق والحرية، ذكر فيها حقائق أعرفها لأول مرة. هذه هي المقالة أنقلها تماما كما هي نصاًَ وشكلاً، أضعها لأجل تعريفكم بجدتي أكثر، وتثبيتا لذكراها أكثر. نسأل الله ان يرحمها ويتغمدها بواسع رحمته هي وسائر أموات المسلمين وأحيائهم.

 

 

الشيخ كمال خطيب:

 

 إلــى اللقـاء يـا سِتّ الحبايب


25 كانون ثان – يناير 2008

 

الشيخ كمال خطيب – نائب رئيس الحركة الاسلامية
عصر يوم الأحد 13/1/2008 كان هو موعد الفراق والرحيل للأم الوالدة، والساعة التي أذن الله سبحانه لملك الموت أن يقبض روح العزيزة الغالية.
ولا أدري، هل كانت إرادة الله سبحانه أن يكون يوم الأحد هذا أشدّ الأيّام برداً منذ سنين طوال لعلّه ببرودته يطفئ نار الحزن التي اضطرمت، ومشاعر الألم التي تفاعلت ساعة نفذ أمر الله سبحانه بوفاة الأم الوالدة؟!.

ولا أظنّ برودة الطقس ولا جليد الأرض يكون قادراً على إطفاء لهيب الحُزن ونار اللوعة على فراق الأم الوالدة، وأنا الذي تركتها منذ ساعتين فقط في المستشفى لأقول لأخي الذي يكبرني بأنّني سأغيب لساعتين أو ثلاث لمهمّة دعوية ثمّ أرجع، وفعلاً رجعت على رأس الساعتين، ولكن بعد اتصال هاتفي يعلمني بأنّ أمّي قد توفّيت، وأنّ روحها قد فاضت إلى بارئها، ولكنّهما لا حول ولا قوّة إلا بالله وإنّا للّه وإنّا إليه راجعون كانت هي البرد والسلام في مثل ذلك الموقف وعند ورود ذلك الخبر.
لا أزعم أبداً أن الأمّ الوالدة كانت بدعاً من النساء والأمّهات، أو أنّها كانت أفضل من غيرها من الأمّهات معاذ الله! و إن كُنت أؤكّد على أنّ مشوار حياة الأمّ الوالدة لم يكن هو مشوار كلّ النّساء ولا حتّى القلائل منهنّ، وكيف لا وهي التي تعرّضت للامتحان والابتلاء بما لا يقدر على حمله الجبال الراسيات.
ولعلّي أنا ابنها قد تحدّثت كثيراً وفي مناسبات مختلفة عن الخنساء، تلك المرأة العربية المسلمة التي فقدت أبناءها الأربعة خلال معارك فتح العراق، ولمّا جاءها خبر استشهادهم الواحد تلو الآخر كانت تقول: الحمد لله الذي شرّفني بموتهم جميعاً، وإنّي أسأل الله أن يجمعني بهم في مستقرّ رحمته، بعد أن اطمأنّت عليهم، وهل كانت الطعنات في صدورهم أم في ظهورهم، فلمّا علمت أنّ الطعن كان في صدورهم اطمأنّت أنّهم قُتلوا مقبلين غير مدبرين ولا هاربين، فحمدت الله وقالت تلك الكلمات الخالدات.

أخت شهيد وزوج شهيد !


أقول عن التي أنا ابنها وأنا أعتزّ بذلك وأفاخر، والتي يحقّ لي أن أعتبرها شقيقة الخنساء وواحدة من خنساوات شعبنا الفلسطيني، وهي التي تفجع في يوم واحد بل وفي ساعة واحدة باستشهاد زوجها وأخيها الوحيد.
كان ذلك يوم 12/7/1948، اليوم الذي ارتكب فيه اليهود مجزرة بشعة في قرية عيلوط -بلد الأم الوالدة- قتلوا فيها 22 شاباً، بعد أن كانوا قد اعتقلوهم بشبهة وتهمة مساعدة والقتال في صفوف المجاهدين والثوّار، وكان ذلك بعد شهرين من إعلان إقامة دولة إسرائيل على حساب تهجير وتشريد شعبنا الفلسطيني من أرضه ووطنه، ويالأحزان ودموع وأنّات تلك الفتاة ابنة السابعة عشرة يومها سروة إبراهيم الصالح (والدتي) وقد أتاها خبر أنّ أخاها الوحيد محمد ابراهيم الصالح وأنّ زوجها محمد مصطفى العيسى كانا من بين شهداء تلك المجزرة.
إنّه مشروع الزواج الذي لم يمض عليه بضعة أشهر، ولكنّه قدر الله الذي لا يُردُّ بأن تعيش تلك الفتاة يومها على وقع ذلك المُصاب الجلل وهي بين لحظة وأخرى تنتقل من نشوة العرس والزفاف القريب لها ولشقيقها، ولتعيش حالة فقدان الزوج الشهيد والأخ الشهيد، وهي ترى والداً يتلوّى من الحزن، وقد فقد ولده الوحيد بين ستّ أخوات، ولكنّها إرادة الله سبحانه، ثمّ إنّها ضريبة الانتماء لهذا الوطن وترابه، يدفعها جدّي من زفراته وخالي من دمه وأمّي من دموعها.
وبعد عام تقريباً من ذلك اليوم كانت الخُطوة المباركة التي أقدم عليها الوالد رحمه الله تعالى يوم تقدّم للزواج من أرملة شهيد وأخت شهيد، وإنّني هنا أبعثها تحت أطباق الثرى قبلة على جبين والدي رحمه الله، وأخرى على يمينه، ودعاءٌ صادقٌ لله تبارك وتعالى له بالرحمة والمغفرة وأنا أعتزّ بذلك الموقف الذي وقفه والخطوة الميمونة التي قام بها بطلب يد أمّي والزواج منها لأكون والحمد لله ثمرة من ثمار ذلك الزواج المبارك، لأنّ ما فعله الوالد رحمه الله لا يقدم عليه إلا ذوو النفوس الكبيرة وأصحاب المروءات وأهل الشهامة.
وكيف لا يكون ذلك الموقف شجاعاً وتكون الخطوة مباركة وهو الذي قدّر وأكبر الشهداء وكرامتهم ومنزلتهم أحياء وأمواتاً وبعد موتهم، بل إنّ ما قام به الوالد رحمه الله هو اليوم مشروع تسهر عليه مؤسّسات ولجان متخصّصة في قطاع غزّة والضفّة الغربية تقوم على تزويج نساء الشهداء والمجاهدين بعد استشهادهم، خاصّة وكما هو معلوم فإن ّمعظم أولئك الشهداء هم من الشباب في مقتبل العمر، وكذلك الأمر تكون أعمار زوجاتهم، فمن إكرامهنّ والحفاظ على شرفهنّ وعرضهنّ وعرض نسائهم هو صون تلك الأعراض بالزواج من شبان صالحين يعرفون كيف يصونون كرامة الشهداء أحياءً وأمواتاً، وكذلك فعل أبي والحمد لله.
نعم الزوجة كانت أمّي، ونعم الأمّ كانت والدتي، وأنا الذي كبرت وفي مخيّلتي وذاكرتي مشهد أمّي التي كانت تقوم بحلب الماعز والبقر الذي كان والدي يملكه نهاية الستينات، وكنت يومها ابن سبع سنين، ومشهد أمّي التي تقوم بمساعدة والدي بل جنباً إلى جنب معه في أعمال الزراعة في الأرض التي نملكها والحمد لله مطلع السبعينات، وكذلك الحال حين كنت أستيقظ عليها كلّ فجر وهي تُعدّ له الزاد حين كان يعمل في ورشات البناء.
وخلال هذا كانت جرعات الخير أتلقاها بشكل مباشر وغير مباشر من اثنين من الصالحين، هكذا أحسبهما والله حسيبهما، أمّا الأوّل فهو جدّي لوالدتي في عيلوط ابراهيم الصالح، فيشهد الله أنّه كان صالحاً بحقّ، وأنّنا ما من مرّة كنّا نذهب لزيارتهم ونحن أطفال إلا وجدّتي تقول لي ولإخوتي "روح يا ستّي نادي سيدك من الجامع"، فلقد كان المسجد بيته الأوّل، ولا أقول الثاني، رحمة الله عليه.
وأمّا الثاني فهو جدّ والدي – الحاج يحيى الخطيب، الذي لا يغيب عن مخيّلتي ضحى كل يوم جمعة لمّا كان يأتي لصلاة الجمعة في المسجد، وكان يسكن بعيداً عنه، حيث كان بيتنا محطّة رئيسية من بين محطّات أخرى يزورها أو يسلّم عليها وهو يضرب بعكّازه باب البيت الخارجي هي بيوت أبنائه وأحفاده.
إنّني أذكر طلّته البهية ولحيته البيضاء وهو يخصّ والدتي بتلك الزيارة لما كانت له في نفسه من إعزاز وإكرام هي من نتاج إكرامه للشهداء ولجدّي لوالدتي بما كانت بينهما من علاقات حميمة ومتينة كان سببها تلك المصاهرة وذلك النسب المبارك.
ومع أنّ والدتي – رحمة الله عليها- كانت لا تجيد القراءة ولا الكتابة، إلا أنّها كانت تحمل بين ثناياها نَفَساً وطنياً صادقاً وتديّناً فطرياً عميقاً، ظهر هذا عبر اعتزازها يوم كان يزورنا في البيت بعض مُنظّري الحزب الشيوعي مطلع السبعينات لإلقاء المحاضرات الفكرية والسياسية، وحيث كنت أنا من يجوب الحارات وبيوت القرية لدعوة النّاس لتلك اللقاءات، إضافة إلى أنّني كنت أوزّع أعداد صحيفة الاتحاد التي كانت تصل إلينا، وما كان هذا انتماءً عقائدياً أو فكرياً، وإنّما كان تعبيراً عن دعم كلّ صوت يواجه سياسة الظلم والغطرسة الإسرائيلية، وإن كانت الأيام أثبتت أنّ هذا لم يكن حقيقياً، إضافة إلى السبب الأساس وهو غياب أي ملمح للمشروع الإسلامي والفكر الديني في تلك السنوات، فلقد كان الوالد -رحمه الله- يقف وراء تلك التحرّكات، وكانت الوالدة تدعم ذلك وتباركه وهي ترحّب بضيوف أبي خلال تلك اللقاءات وتكرمهم.
أقول ومع أنّ الأم الوالدة كانت لا تقرأ ولا تكتب إلا أنّها استماتت بعد إنهائي الصفّ الثامن من أجل إكمال الدراسة الثانوية، ولمّا أنّ قريتنا العزير كانت صغيرة ولا توجد فيها مدرسة ثانوية فقد بذل والدي -رحمه الله- جهداً كبيراً لتسجيلي ثمّ قبولي في مدرسة أهلية هي كلية تيراسانطة الثانوية"الأرض المقدّسة" في الناصرة، حيث كان قبول الطالب فيها أمنية يتمنّاها كل طالب، ويكون ذلك مصدر فخر لوالديه، ولمّا أنّه كان لأحد معلّميّ في الصف الثامن دورٌ أساس في قبولي وهو الأستاذ فريد منصور من الناصرة، فلقد كان هذا سبباً في تقدير والدي-رحمهما الله- لذلك الدور وأسست بسبب ذلك علاقة وزيارات متبادلة، وهو الذي ما أن سمع بخبر وفاة الوالدة حتى جاء معزياً ومواسياً ومعبراً عن تقديره لدور الوالدة الفاضلة.
كلّ هذا مما أعتز به وأفاخر بالوالدة، ولكن أكثر ما يجعلني أعتزّ بها في حياتها وبعد مماتها هي والوالد -عليهما رحمة الله- تشجيعهما لي ومباركتهما تلك الفكرة التي جاءت من غير مقدّمات وهي رغبتي في دراسة الشريعة الإسلامية وأنا على أبواب إنهاء الصفّ الثاني عشر، وما كان هذا بتأثير أحد، اللهم إلا أنّها حكمة الله وإرادته، فالحمد لله على ذلك.
فلقد كانت الفكرة مستهجنة وغير مألوفة، وليس لها سوق رائجة في واقع النّاس، فلقد اعتاد النّاس أن يفاخروا بولدهم الذي يدرس الطبّ أو المحاماة أو غيرها، أمّا أن يدرس الشريعة فقد كان هذا طرحاً جديداً ومصطلحاً غريباً، ولكن ولطيبة قلبيهما ولاحترامهما لرغبتي ولتدينهما الفطري فقد كان القبول منهما مباشرة، لا بل والسعي لتحقيق رغبتي تلك. وفعلاً فقد تمّ التسجيل والقبول مباشرة في نفس العام الذي أنهيت فيه الصفّ الثاني عشر (سنة 1980) في كلية الشريعة في جامعة الخليل والحمد لله.
ولا أنسى يوم وقع الاعتداء الإجرامي علينا في جامعة الخليل في شهر آذار من العام 1983، يوم دخلت تلك المجموعة اليهودية الإجرامية إلى حرم الجامعة وهم يلبسون الثياب العربية وقاموا بإطلاق النّار وإلقاء القنابل، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد ثلاثة طلاب وجرح آخرين، ومع منع التجوّل الذي فرض والحصار الذي ضرب حول مدينة الخليل، إلا أنّه وفي ظهيرة اليوم التالي فوجئت بوالديّ رحمة الله عليهما يصلان إلى الخليل للاطمئنان عليّ وكانت هي المرّة الأولى التي تزور والدتي المدينة يومها. وكم كانت فياضة في مشاعرها وكم سكبت من الدموع وهي تحتضنني، ولا تكاد تصدّق عيناها أنّني لم أصب بأذى.

وكانت تغسل الموتى !


مع ما كانت عليه من دقّة ولطف وحسن عشرة إلا أنّ الأم الوالدة كانت تملك من رباطة الجأش ما جعلها تقوم بعمل لا يتقنه الكثير من النساء، إنّها التي ما أن يتوفّى الله امرأة في القرية أو القرى المجاورة إلا والأم الوالدة هي التي تقوم بتغسيلها وتجهيزها للدفن، فقد كانت والحمد لله محطّ ثقة الجميع حين لا يقبل أهل الميتة أن يغسل ميتتهم إلا الأم الوالدة.
لقد عرفت لوالدي أصدقاء كثيرين، ولكن صداقة مميزة جمعت بين والديّ وبين أسرتين كريمتين، الأولى أسرة مسلمة من قرية عرابة البطوف هي أسرة العمّ أبو عطوة محمد النجّار، والثانية هي أسرة مسيحية من مهجّري قرية سحماتا ويسكنون حيفا هي أسرة العمّ أبو عادل "أسعد سمعان" وكانت صداقة بدا فيها تعب البال والأعمال الشاقّة حيث كانوا يعملون سوية في ورشات البناء. وكنت ألمس مقدار الإعزاز المتبادل لوالدي وأصدقائهما عند زيارة كلّ منهم للآخر. أما وقد انتقل كلّ هؤلاء إلى جوار ربّهم وكانت والدتي آخرهم فإنّها العلاقة الحميمة التي ما تزال تربط بيننا وبين أبناء الأسرتين الكريمتين وستستمر بإذن الله إكراماً لهم، امتثالاً واقتداءً بوصية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه رجلٌ من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيءٌ أبرّهما بعد موتهما؟ فقال: "نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الأرحام التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".
لعلّه الحديث الطويل الذي لا ينقطع عمّن اعتز بهما وأسأل الله أن يجمعني بهما في مستقرّ رحمته الوالد والوالدة، وحيث لا مجال لذكر ذلك كلّه والتفصيل فيه، إلا أنّه ومن يوم أن بدأت أفهم معاني الكلمات فإنّ جملة واحدة ظلّت تتردّد على لسان الأم الوالدة كانت بها تعبّر عن حزنها ولوعتها بفراق شقيقها الوحيد والذي كانت صورته وما زالت معلّقة في صدر بيتنا وهي قولها "خيّة يا محمد، الله يقتلهن اللي قتلوك".
إنّها والدتي وإنهنّ خالاتي الخمس اللاتي ما فتئن يبكين أخاهنّ الوحيد محمد والذي قتله اليهود ولم يمض على زواجه إلا بضعة أشهر وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، وطوال سنوات عمري ومن خلالي زياراتي لخالاتي وزيارتهنّ لوالدتي فقد ظلّ ذكر خالي الوحيد على ألسنتهنّ لم يغب طيفه ولم يُنس ذكره.
ولمّا أنّ الأم الوالدة -رحمها الله تعالى- قد أصيبت في الأعوام الأخيرة بجملة من الأمراض اجتمعت عليها وقد أصبح لزاماً علينا ومن الوفاء بل والواجب أن نكون إلى جانبها، فلقد كنت أبيت عندها في قريتنا العزير أنا وزوجتي، رغم أنّ من كانوا حولها ومن كانت في رعايتهم من إخوتي وأخواتي قد قاموا بواجبهم خير القيام، جزاهم الله خيراً، ومع أنّهم كانوا يقدِّرون ظروف عملي ومهمّاتي الدعوية، إلا أنّني كنت أنتهز بعض الفرص للمبيت إلى جانبها، وإذا تعذّر عليّ ذلك فلقد كانت تقوم بالمهمّة زوجتي أم معاذ جزاها الله خيراً.
ولقد أدهشني ذات ليلة حين استيقظت عليها وهي تقول (خيّة يا محمّد أمرق من الحواكير ليشوفوك اليهود ويطخّوك، دير بالك خيّة يا محمّد).
إنّها وإن بدأت تفقد ذاكرتها القصيرة إلا أنّها راحت تستعيد ذكرياتها الماضية والبعيدة وكأنّها تتحدّث مع خالي وشقيقها محمد تحذّره من العصابات اليهودية التي كانت تجوب شوارع القرية وتحاصرها قبل ستين سنة.
ولكن الذي كانت تحذَره وتخشاه على شقيقها قد وقع وقد قُتل هو واثنان وعشرون من الشهداء على يد العصابات الصهيونية اليهودية يوم 21/7/1948.
أما وإنّ الأم الوالدة قد مضت إلى جوار ربّها سبحانه وهي ما تزال تتجرّع لوعة فقدان شقيقها الوحيد، أما وإنّنا نحن أبناؤها قد حُرمنا وإلى الأبد من دفء الخال وحنانه ولم تتح لنا الفرصة ولو لمرّة واحدة أن ننادي بكلمة خالي فاستعضنا عن ذلك بأن نعتبر أبناء عمومة الوالدة هُم أخوالنا، أما وإنّ الغصّة قد رافقتها ستين سنة متواصلة فإنّ العهد منّا نحن الأبناء أن لا ننسى ظلم من ظلموك أيّتها الأم الوالدة، إنّه العهد منّا أن لا نسامح من لوّعوك ومن أسالوا الدمع من عينيك فجرى ساخناً على خدّيك، وإنّها الأيّام، يومٌ لك ويومٌ عليك {وتلك الأيام نداولها بين النّاس}.
رغم أنّ الأمّ الوالدة كانت كومة من الخير، بل وكنزاً لا يقدّر بثمن، ولكن لسانها وعذوبة منطقها كان الأعظم، ولقد كنت أسمعها وهي تردّد أدعية كانت تنهمر منها علينا حتى ليخيّل لي وللسامع أنّها كلمات تنطلق من أديب حاذق أو من خطيب مفوَّه وهي في الحقيقة ليست إلا كلمات وأدعية كانت تخرج من قلب صادق هو قلب أمّي، وإذا كان البعض قد اصطلح على مقولة أنّ الدنيا هي أمّ وكثيراً ما نسمع هذه المقولة إلا أنّني أقول بأنّ الأم هي الدنيا.
ومن جميل ما حفظته ممّا كانت تردّده من دعوات وتبريكات قولها -رحمة الله عليها – :
1- "ريتك يا ستّي مستورة بجاه 114سورة".
2- "ريتك يا ستّي مرضيّة بجاه عايشة وصفيّة والكعبة المبنيّة".
هاتان الدعوتان المباركتان كانت تقولهما كلمّا رأت بناتي أو بنات أخوتي وأخواتي.
3- "بَطُلش سماه بَحِبّ وطاه" أي أقبّل تراب الأرض إن لم أستطع تقبيل السماء.
4- "الله يعينّا عطاعته وبالآخرة شفاعته".
هاتان الدعوتان كانت تردّدهما في لحظات المناجاة مع الخالق تبارك وتعالى.
5- "الله يرضى عليكو ويستر عليكو وعلى نسوانكو وبناتكو وخواتكو سِترْ بالدنيا وستر بالآخرة".
أما وإنّ قدر الله سبحانه قد وقع وجاءت ساعة الفراق فإنّنا لا نقول إلا ما يرضي ربّنا سبحانه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
فاللهم ربّنا وقد كانت أمّي وأبي سبباً من أسباب دراستي لكتابك وسنّة رسولك صلى الله عليه وسلم، فأسألك يا الله أن تهب ثواب من كنتُ سبباً في هدايتهم إلى صلاة أو توبة أو لبس حجاب أو استقامة أو اعتزاز بالإسلام فاجعل ثواب ذلك بيني وبين والديّ برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الغني عن عذابهما وهما الفقراء إلى رحمتك، فأنزل عظيم عفوك على عظيم ذنوبهم يا ربّ العالمين. اللهم وقد كانت أمّي ترجو في الآخرة شفاعتك فأكرمها بشفاعتك وعفوك يا كريم… الله لا تعاملهم بما هم أهله، وعاملهم بما أنت أهله، فأنت أهل التقوى والمغفرة…
أما وقد حانت ساعة الفراق فلا أقول لكما وداعاً، ولكن إلى لقاء في الفردوس الأعلى من الجنّة بإذن الله سبحانه وكرمه وجوده ورحمته، وهو الذي قال: {والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كلّ امرئ بما كسب رهين}، فإلى اللقاء يا ستّ الحبايب، إلى اللقاء يا أمّي، إلى اللّقاء يا عبق الشهداء.
رحم الله قارئاً دعا لي ولوالديّ وله ولوالديه بالمغفرة والرحمة.
{… والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون}.

 

( العبارتين بالأحمر أعلاه هما من الراصد لم يردا في المقال الأصلي)

( المقالة نشرت في صحيفة صوت الحق والحرية، على هذا الرابط: هنا )

2 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    رحم الله جدتك أخي الكريم، وأسال الله تعالى ان يدخلها فسيح جناته، بالنسبة لمقال الوالد الشيخ كمال
    فقد تم قراءته في الجريدة وقت صدورها
    حياكم الله وبياكم اخي

  2. i am speechless
    i have no words in my mind or mouth to express my admiration for Sheikh Kamal's blessed and pious mother

    my eyes are full of tears ..
    how great this woman was..

    we have lost her body, but never her soul , because her sons and daughters are still with us, their offspring is still with us, still here with their true love for Allah and his Prophet, with their true love for the usurped Palestine and the usurped Aqsa

    may allah 3azza w jal unify us with her and her husbands and all her family in the highest paradise
    Ameen

ما رأيك بما قلتُه؟ أسعدني برأيك !!