"نحن بأمس الحاجة لعودة أبي مخلوف وأبو صليح وأبو فراج، فهل تعيد حركتنا الاسلامية المباركة النظر في الكنز المسرحي الذي يكاد يضيع، وتمده بأسباب القوة والطاقة لينطلق من جديد ويضيء مصابيح جديدة في طريق دعوتنا المباركة ؟"
لا زلت اذكر تلك الليلة التي فيها احتشدت الجماهير في ساحة دار ابو سليم رحمه الله.
شيوخ وشباب وأطفال، ونساء فوق سطوح المنازل جاؤوا من كل حدب وصوب للمشاركة في فعاليات ذاك اليوم من معرض الكتاب الاسلامي الذي دأبت حركتنا الاسلامية على اقامته منذ بداية انطلاقتها المباركة.
في تلك الليلة تحديدا كانت الآذان مشدودة والعيون مسمرّة على ما يحدث على المنصة. المقاعد كانت ممتلئة، واعداد الواقفين فاقت بكثير أعداد الجالسين. كنت طفلا حينها، ومثل كل اطفال الحارة والحارات المجاورة وما بعدها وما بعدها، جئت متلهفا لحضور فقرات المهرجان الدعوية والفنيّة ، وخاصة المسرحيات التي كانت ايضا تستقطب العشرات من ابناء القرى المجاورة.
اذكر تماما انني اشتريت "نص رغيف فلافل" ذاك المساء وأفرغت فيه اكثر من نصف قنينة الطحينة، بعدها اعطاني البائع قنينة مشروب "لهيط" مع علمه انني لم املك ثمنها، "عشنـّك ابن الشيخ" ، كما قال لي. اتكأت مع المتكئين على سور الروضة الاسلامية المجاورة لساحة دار ابو سليم. لم انتبه أبدا أن بلوزتي الكحلية قد تلطخت بلون الطحينة الابيض وقد سالت انهارا ووديانا على ملابسي، فقد كانت كل حواسي مشغولة بمتابعة ما يحدث على المنصة، ومراقبة البطل "أبو مخلوف" المختار وهو يتمختر على المنصة يلوح مرة بعكازه ومرة بمسدسه الذي "اعطاه اياه الخواجة".
لتلك الايام نكهة خاصة لا تنسى. فقد تميزت فرقة الاعتصام بالمسرحيات النوعية التي كانت تقدمها بقيادة "أبو مخلوف" الشيخ سليم عواودة الذي أبدع في تأليف المسرحيات وإخراجها بل ولعب ادوارا رئيسية فيها، ومعه عدد من الممثلين ابناء الحركة الاسلامية الذين لم يدرسوا المسرح ولا الفنون، لكنهم كانوا يُجارون -بل ويتفوقون على- كبار الشخصيات المسرحية العربية مثل ممثلي مسرحية "ابو مخلوف" وهم أبو صليح (كمال سعيد خطيب)، ابو عمار (ابو ابراهيم نجيدات (ابو موسى) رحمه الله)، و "مسيو زويمر" (نزيه سعيد)، الحدّا ابو فرّاج (عدنان خطيب)، الخواجة (غسان خطيب)،ونخبة من الممثلين الشباب مثل لطفي زريقي، جليل كريّم، كفاح زريقي، ورفعت خمايسي وغيرهم من الذين تألقوا في مسرحية ابو مخلوف وغيرها من مسرحيات الاعتصام التي كان لها طعم خاص ونكهة مميزة.
نقطة هامشية 3: ارجو ان تساهم في دعم موقع الراصد بالتصويت له في مسابقة المواقع العربية (10 ثوانٍ فقط!!) التفاصيل هنا
وفي أم الفحم تألقت فرقة النور أيضا، في اعمال مسرحية نوعيّة وهادفة ولم تكن مجرد ترفيه وتسلية، بل كانت رافعة نهضوية قلّ نظيرها. فقد خدمت تلك المسرحيات الصحوة الاسلامية والدعوة الاسلامية المنطلقة بصورة فريدة ومؤثرة جدا كانت ثمارها واضحة وبيّنة. وعالجت المسرحيات قضايا عديدة ومتنوعة وحاربت الظواهر السلبية في المجتمع، وحثـّت على الفضائل والاخلاق الحميدة، وكل ذلك بقالب مسرحي ساخر، لا ابالغ ان قلت ان تأثيره لم يقلّ عن تأثير الخطب المنبرية والمواعظ الدينية التي كان يقدمها مشايخنا الكرام في مثل تلك المناسبات.
فقد انتقدت المسرحيات موضوعات وقضايا حيّة يعيشها فلسطينيو الداخل بصورة يومية، ومنها الاعراس "الجاهلية" كما كنا نسميها في تلك الفترة (وهي تسمية قد تكون ظالمة لولا ما كان يرافق تلك الاعراس من اختلاط ومظاهر سلبية)؛ وضع المدارس العربية وتردي المستوى التعليمي؛ قلة الالتزام والوعي الديني؛ الوضع السياسي والانتماء الوطني لفلسطينيي الداخل ومنها قضية "المختـَرة" والتعاون مع سلطات الاحتلال؛الآفات الاجتماعية مثل الطّوش العائلية والتكتلات الحمائلية؛ ومواضيع اخرى عديدة كانت تخاطب كل فرد في مجتمعنا وتلامس واقعه عن قرب.
الفوائد والانجازات
التي حققتها المسرحيات اكثر من ان تحصى. فقد استقطبت الناس من كل فئاتهم، وكشفتهم على الحركة الاسلامية الناشئة وفكرها ومشاريعها وما تدعو إليه، وأزالت الضبابية والشك والريبة بل وحالة الاستعداء التي قوبلت بها الحركة الاسلامية من قبل بعض الاطراف، وهو ما تترجم الى انضمام الكثيرين لصف الحركة الاسلامية والمساهمة في نشاطاتها التطوعية والدعوية والاجتماعية. وبالتالي كان كل ذلك رافعة ساهمت في تعزيز مكانة الحركة الاسلامية ورفع رصيدها بين الناس وحصولها على دعم كبير وتوسيع قاعدتها الشعبية التي استندت اليها في مشاريعها المستقبلية الضخمة التي لا زالت مستمرة حتى هذا اليوم.
ومن افضل الامثلة على انجازات الحركة المسرحية الاسلامية
كما رأيتها في اعمال فرقة الاعتصام الكناوية التي شاهدت كل مسرحياتها بحكم نشأتي في كفركنا، هو ذاك المشهد الذي فيه شارك رجال وفتيان من كل حمائل كفركنا، بل وتحديدا من العائلات الكناوية المتخاصمة والتي كانت في تلك الفترة والفترة التي سبقتها في تناحر وحروب دائمة حصدت ارواحا وأبرياء. لكن على المنصة كان ابناء تلك العائلات يشتركون سوية وبشكل موحد في أداء أدوار المسرحية التي كانت العبرة منها نبذ العائلية والحمائلية والتفرقة، في مظهر رائع يدعو للفخر والاعتزاز بأبناء البلد الواحد، وبالحركة الاسلامية التي جمعتهم على كلمة طيبة بعد ان فرقتهم العصبية القبلية البغيضة… لكن المشهد أيضا يدعو للحزن وللحنين الى الماضي!
فللأسف الشديد دخلت الحركة المسرحية الاسلامية (ولا اقول الفنية بالمجمل، بل المسرحية فقط) في مرحلة خمول بل وسبات لا تصحو منه إلا في المهرجانات الكبرى، وحتى في تلك المهرجانات، فقد باتت الاعمال المسرحية تسير في مسار واحد اعتراه التكرار والإملال وانعدم فيه التجديد والابداع إلا فيما ندر. ولم نعد نشاهد اعمالا مسرحية محلية تخاطب العامة وتوصل لهم الرسالة ببساطة وشفافية دون تعقيدات واضواء ومنصات ضخمة، ومسافة شاسعة تفصل بين الممثلين والمشاهدين. اختفت المسرحيات التي فيها كان لا يبعد الممثلون عن الجمهور سوى امتار قليلة، بحيث يشعر المشاهد بأن الممثل وما يرويه من تفاصيل حياتية تنطبق عليه تماما، فهو يحس باحساس الممثل، ويتعاطف معه، بل ويعيش فيه ويتخيله هو نفسه، ويتخيل كيف سيتصرف لو كان مكانه، وبالتالي يسهل ايصال الفكرة والرسالة والمغزى المراد من المسرحية.
ولست بصدد تحليل اسباب تراجع الفن المسرحي الاسلامي في بلادنا، لكن الواضح ان الدعم الذي كانت تمنحه الحركة الاسلامية في هذا الباب قد قلّ ونضبت منابعه، لانشغال الحركة الاسلامية بقضايا قد تكون أهم وأخطر وعلى رأسها قضية المسجد الاقصى المبارك، ومواكبة لكثير من المتغيرات والمستجدات في العقد الماضي التي تطلبت جهودا كبيرة ومتواصلة، كانت على حساب الفن المسرحي. ومع ذلك، فالمسرح لم تقل أهميته أبدا، بل إن اهميته كبرت وتعاظمت في ظل حاجة الناس لفنون انسانية حية ، خاصة في عصر التطور التقني والمعلوماتي الذي نعيشه، والذي صار فيه الانترنت والحاسوب واليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي المصدر الاول للمعلومات فيها يقضي الانسان معظم وقته. وفي هذه الظروف فالحاجة كبيرة وماسّة لخلق بيئات توفر امكانية التواصل الاجتماعي المباشر وتكون وديّة، ترفيهية، وفي نفس الوقت هادفة وذات رسالة، تعيد اواصر العلاقات الاجتماعية الايجابية بين الناس من جهة، وتساهم في تعزيز وتعميق حضور العمل الاسلامي والفكرة والدعوة الاسلامية بين الناس، وهو امر في غاية الاهمية في هذه الايام التي نشهد فيها تصعيدا وهجوما غير مسبوق على القيم التربوية الاسلامية من قبل التيارات العلمانية التحررية التي تستقطب ضعاف النفوس والمخدوعين وخاصة من الجيل الناشئ.
والملاحظ ان الفن المسرحي لا زال حاضرا وبقوّة في البلاد الغربية المتطورة، بل وفي بلادنا في اطارات التيارات السياسية العلمانية، فلماذا هجرنا نحن هذا الفن الراقي والهادف وقد كنا اوائل من برعوا فيه وقدموه للناس في قالب اسلامي مميز قل نظيره في العالم العربي بأسره؟
إن من الواجب
في رأيي إعادة احياء المسارح الاسلامية المحلية مثل مسرح الاعتصام وعرض مسرحياته القديمة الأصيلة، الرائعة، والهادفة، وانشاء نوادي او فرق مسرح محليّة جديدة على غرار مسرح "اشبال الاعتصام" و "اشبال النور" السابقة.
هذا سيضمن عودة المسرح الاسلامي الهادف بدل الالوان الفنية الهابطة والمنتشرة بين شبابنا، ومن ناحية اخرى سيكون مساحة لتفريغ طاقة الشباب في امور ايجابية تفيد المجتمع وبناءه، بدل تقضية اوقاتهم في الامور غير النافعة، بل والضارة التي باتت تطوقنا من كل جانب.
صحيح انني كنت صبيا في اوج المسرح الاسلامي الذي قدمته فرقة الاعتصام، لكني كنت اعرف جيدا ما كان يدور حولي. كنت اقف بين الناس التي كانت تحتشد لرؤية ابو مخلوف المختار الذي اعطاه الخواجا مسدسا لقاء خدماته الجليلة، واعلم ما كانت تخلقه مثل هذه الصورة النقدية من أثر في نفوس المشاهدين. ابو مخلوف نفسه لا يعرف الأثر العظيم الذي احدثته مسرحياته في الناس.. لكني أعرف ذلك تماما حين اتذكر تلك الصور التي كنت اراها أنا وأقراني وانطبعت في ذهني حتى هذا اليوم.
نحن بأمس الحاجة لعودة أبي مخلوف وأبو صليح وأبو فراج، فهل تعيد حركتنا الإسلامية المباركة النظر في الكنز المسرحي الذي يكاد يضيع، وتمده بأسباب القوة والطاقة لينطلق من جديد ويضيء مصابيح جديدة في طريق دعوتنا المباركة ؟
نماذج من مسرحيات فرقة الاعتصام الاسلامية القديمة: اضغط هنا