قبل زمنٍ نشرتُ على صفحتي على فيسبوك منشورًا عن الحب. ربما كان أقصر منشور كتبته في حياتي، لا يتجاوز العشرَ كلمات، لكن بعض التعليقات عليه صدمتني، واستوقفتني.. طويلًا.
فبسبب هذه التعليقات أدركت ولأول مرّة أننا نعيش تفاصيل مأساة ثقافية فظيعة نحنُ حتّى لا ندرك أننا غارقون فيها. لم تكن المشكلة في التعليقات نفسها، إنما في الواقع الذي ذكرّتني به هذه التعليقات، التي أبدت استغرابها من أن معاذ خطيب، بغير العادة، بل ولأول مرةّ، يكتب عن الحب.
أجل.. لم أدرك أنني معظم الفترة السابقة كنت أكتب عن الكُره. لكن ليس لأنني إنسان سلبي وسيّئ وسوداوي.
بل كل تلك هي صفات حياتنا.
فمنذ اندلاع الثورات العربية وما آلت إليه من واقع دموي وخاصة في مصر وسوريا و والعراق واليمن وليبيا، ثم ما يحصل في فلسطين والقدس وغزّة، وتهافت دولٍ تحمل أسماء عربية للتطبيع مع عدوّ العرب الأول، لأجل كل ذلك أصبح الكاتب العربي صاحب الانتماء، الذي يعتز بثقافته العربية وحضارته الإسلامية، الذي يعتبر الوطن السوري وطنه، والدم المصري دمه، والأرض اليمنية أرضه، أصبح يكرّس كل نتاجه الإبداعي الأدبي للدفاع عن الرواية أو وجهة النظر التي يعتنقها بخصوص الأحداث الدائرة في تلك البلاد. كنّا بقضية فلسطين وحدها، ثم أصبحت كل بلاد العرب فيها قضية فلسطين، أرض يحتلها نظامٌ بربريٌ غاشم، وشعبٌ ينتظر التحرير.
وكنت أنا أحد أولئك الكُتاب.
حدّثتُ شخصًا عزيزًا أنني قبل التحوّلات الدموية التي شهدتها الثورات العربية، كنت أكتبُ في مجالات كثيرة: نقد السينما، نقد الإعلام، في الأدب، والموسيقى، والفن، والدين، والعلوم الاجتماعية والتجريبية، وحتى عن النمور والقنادس واليرابيع والبُبُور، وغيرها من الأمور التي تهم كل باحث عن المعرفة.
لكن اهتمامي بهذه القضايا بدأ يتلاشى ويتقزّم أمام إلحاح قضايا طارئة هي أهم وأخطر وأعمق تأثيرًا في النفس والمشاعر.
قلتُ له: يا صديقي، أتصدّق أنني أحيانًا أقرأ كتاباتي القديمة وأتحسّر لأن التطورات في عالمنا العربي، وحالة الانقسام والتفرّق بل والعداء بين مركبات بعض مجتمعاتنا العربيّة، جعلت حتّى نتاجنا الإبداعي سوداوي جدا وعنيفٌ وعدوانيٌ بعيد كل البعد عن الحب، التقبّل، التسامح، والإيجابية، فيما ينشغل الكاتب الغربي الذي لا تشهد بلاده أي حروب ومجازر، في الكتابة الحالمة للنهضة والتطوّر والتقدّم.
سابقًا كنت أترجم مقالات ومقاطع فيديو ملهمة، تحفيزية، أو علمية. ترجمتُ مرة مقطع فيديو عن دِقّة بَصَر اليعسوب، وعن هيكلية أجنحة الطيور، وعن العضلات الخلفية الخارقة للفهد الصيّاد. لكن اليوم، سأجد نفسي تافهًا جدًا لو كتبتُ عن آلية طيران الفراشة، بدل الكتابة عن الآليات الطائرة المدمّرة التي تقذف القنابل والرعب والموت في سوريا. أنا، مثل كثيرٍ من أصحاب الإنتاج النصّي، صرتُ أسخّر قلمي وأستنزف طاقاتي في توثيق ومحاولة إثبات المأساة من وجهة نظري، ومحاولة دحض رواية الطرف الآخر، بدل خلق محتوى إبداعي غني وهادف وبنّاء. ولا نكاد نلتقط أنفاسنا بعد انتهاء مأساة في بلدٍ عربي ما، حتى تختنق أرواحنا بأخبار مأساة جديدة في بلدٍ آخر..
هذا هو التحوّل المُمعن في السوداوية، الذي وقعنا فيه.
هذه كارثة ثقافية آثارها لن تظهر اليوم، بل بعد حين.
منشوري كان عن الحب المجرّد. كنت أود القول أن الحُب حين يموت فينا، ستنمو فوق أشلائه الكراهية والأحقاد، وحينها لن نموت موتًا طبيعيًا، بل حين تأكل نيران الشرّ قلوبنا.
لماذا يموت الحب