شرفة العار لإبراهيم نصر الله: جرائم الشّرف بنظرة ناقدة لكن متوازنة
تتناول رواية “شرفة العار” لإبراهيم نصر الله قضيّة “جرائم الشرف” الحاضرة في بعض المجتمعات العربيّة، حين تتعرض الفتاة إلى القتل أو الاعتداء من قبل أبيها أو أخيها بسبب إقامتها لعلاقة جنسية محرّمة خارج إطار الزواج.
بأسلوب السّرد الروائي، يتناول الكاتب هذا الموضوع الشائك بصورة ناقدة لكن متوازنة، ودون تلويث نقده بنظريات الحركة النسوية التي تشيطن الذكور (كل الذكور) والرجال (كل الرجال) وتتهم كل المجتمع بالتواطؤ بل وتحمّله مسؤولية جرائم كهذه رغم أنها جريمة مثل أي جريمة أخرى تستهدف رجلًا أو امرأة، يرتكبها شخص ذو ميول إجرامية ويمكن أن يكون ضحيّته رجلًا تمامًا كما أنها يمكن أن تكون امرأة.
بطلة القصة هي منار، فتاة أنهت للتوّ دراستها الجامعية في موضوع علم الاجتماع وبدأت العمل في مدرسة حكومية، تتعرض للاغتصاب ثم القتل من قبل أخيها الذي يظن أنها تورطت في علاقة غير شرعية، مع أنه هو نفسه كان غارقًا في حضن تمام، جارتهم الأرملة، والتي كان يتسلل إلى بيتها ليمارس معها نفس الفعل الذي قتل أخته منار بادّعاء أنها ترتكبه.
في رواية نصر الله، لا توجد أي علاقة غير شرعية (باستثناء علاقة تمام مع أمين)؛ أما منار، فيتم اغتصابها من قبل يونس سائق التاكسي الذي تثق به لأنه صديق أخيها أمين، ونديمه في الحانات وبيوت المومسات.
في الرواية تناقضات عديدة تشير للتناقضات الموجودة فعلًا في مجتمعنا العربي: منار تُــقـتَـل من قبل أخيها الذي يشك أنها حَمَلت جنينها من علاقة غير شرعية، مع أنه هو نفسه كان على علاقة غير شرعية بتمام. وتمام، هي نفسها التي تفضح منار وتفشي سرّ حملها لأخيها بقولها أنه حملٌ من علاقة غير شرعية.
النظام القضائي يُفترض أنه يحمي الضحايا لكنه في الواقع يحمي قاتليهم. ومنار نفسها لم تحمِ ضحيّة أخرى، وهي طالبتها تغريد، ولم تفعل ما توجب عليها فعله لإنقاذها، قبل أن يقتلها أخوها. أما أنور، شقيق منار، فقد يكون هو الوحيد الخالي من التناقضات، حين يُشهر سكينًا في وجه كل من يحاول الاقتراب من باب غرفة منار لقتلها؛ ويبدو أن الكاتب أراد القول أنه يعقد الآمال على الجيل الصغير الناشئ بأن يمحو هذه الأفكار والتقاليد الظالمة والعيوب التي تعتري المجتمع.
لكن “شرفة العار” فيها هي الأخرى من العيوب ما فيها…
فجرائم الشرف في المجتمع العربي لا تحدث (على ما أعلمه من حالات) بعد ان تتعرض فتاة للاغتصاب كما حصل مع منار، إنما بعد ان تُكتشف علاقة جنسية بينها وبين شخصٍ غير مرغوب (ولم أقل “شخص لا يحلّ لها”، لأنه في كثير من الحالات كان الدافع في قتل الأنثى هو أن الذكر الذي أقامت معه العلاقة هو شخصٌ غير مرغوب للأب/الأخ/الأم، وليس بالضرورة لأن علاقتها به كانت علاقة غير شرعية).
لكن قد يكون الكاتب فعل ذلك، أي قد تكون منار في روايته تعرضت للقتل رغم أنها في الحقيقة لم تتورّط بأي علاقة جنسية غير شرعية، كي يتجنب ان يُفهم من روايته أنه يتعاطف مع امرأة قُتلت لأنها فعلا كانت بعلاقة محرمة، وهو ما قد يعرّض الكاتب للنقد بدعوى أنه يدافع عن الفتيات اللواتي يرتكبن الزنا والعلاقات المحرّمة.
لكن في حالة منار، كانت الفتاة ضحية مرتين: مرّة ضحية الاغتصاب ومرّة ضحية القتل الظالم.
وهذا يقودنا لنقطة أخرى تعيب الرواية. فمنار في الرواية تتعرض للاغتصاب من قبل يونس صديق أخيها أمين، لأن أمين رفض سداد دينٍ كان عليه ليونس. وهذه مبالغة ما بعدها مبالغة. فهل يعقل، وهل حدث، أن قام أحدهم في أي من المجتمعات العربية، باغتصاب أخت أحدهم لأنه مدين له بمال؟؟ هذا تصوير سيئ وتشويهي للمجتمع العربي، وهو لا يخدم الحبكة ولا الرسالة، وكان هناك ألف سيناريو آخر أكثر منطقية يمكن لنصر الله أن يستعمله.
هناك حشو تفاصيل زائدة خاصة في النصف الاول.
كذلك، من غير المنطقي ان تتعرض فتاة للاغتصاب وتسكت، خاصة حتى يكبر الجنين في رحمها ويصبح افتضاح أمرها لا مفرّ منه. المنطقي والطبيعي أن تقوم منار التي تعرضت للاغتصاب بإخبار أهلها بما حصل لها، فهذا سيضمن لها حقها في القصاص من الجاني المغتصب، وسيحميها من الاعتداء عليها إن ظن أهلها أن حملها نتاج علاقة غير شرعية برضاها. لكن العكس تماما هو الذي يحدث، وهذا بعيد عن الواقع والمنطق.
أما الطالبة تغريد، فليس من الشائع ابدا في المجتمعات العربية أن يكون المعتدي بالاغتصاب هو أخ الفتاة. لا أنكر أن حالات كهذه قد تكون حدثت، لكن ذكرها في رواية يجعلها “ظاهرة” وهي حتمًا ليست كذلك، كما هو الحال مثلًا في المجتمعات الغربية.
كذلك، قيام شقيق تغريد الذي اغتصبها بقتلها بحجّة أنها هددته بفضحه غير منطقي ولا واقعي، أولا لأنها كانت بذلك ستفضح نفسها أيضًا، وثانيا لان قيامه بقتلها فضَحَهُ بكل الأحوال.
ومن أوجه المبالغة تعرُّض منار في السجن للاغتصاب من قبل امرأة سُحاقيّة (تمارس الشذوذ الجنسي). ولا أعلم أي رسالة أراد نصر الله أن يوصل هنا، فوجود الممارسة السحاقية في مجتمعنا نادرة الوجود، وإن وجدت، فحتمًا لا تحدث في السجون العربيّة (على سوئها) وهي أماكن عامة لا توجد فيها أي خصوصية تتيح علاقة مثل هذه، بل وعلاقة اغتصاب كهذه. وقد كان في وسع نصر الله، الذي لا تنقصه المهارة والقدرة التأليفية، على جعلنا نتعاطف مع منار من خلال أحداث أخرى أكثر واقعية، خاصة وأن الرواية ليست رواية خيالية بل رواية يفترض أنها تعكس الواقع.
رغم كل ما ذكرته من ثغرات في الرواية، لكنها تظل رواية قيّمة تسلّط الضوء على قضية هامة بل وعلاجها من خلال تذكير القارئ بأن روح الإنسان أغلى من أن يسلبها أحدهم في لحظة غضب خاصة إن كانت مبنية على ظُنون يتبيّن لاحقًا أنها خاطئة. كما أن الرواية تحتوي جوانب مشرقة جديرة بالإشادة مثل قيام الكاتب إبراهيم نصر الله بالتذكير بصورة مبطّنة بقضيّة غزة والحصار والمجازر التي يتعرض لها أهلها، من خلال صور يستعرضها الكاتب في الرواية ومجازات يوظفها، لكن بصورة خفيفة الظلّ دون أن يكون ذلك بصورة “اقتحامية” تشتّت القارئ وتحيد به عن الحبكة الرئيسية. كما يستحق الكاتب الثناء لتجنّبه الوقوع في فخ التعميم الذي يقع فيه البعض بقصد أو دون قصد، فلم يتم تغليف جريمة قتل منار بعباءة دينية، ولم يظهر أمين القاتل بأنه شيخ ملتحٍ يحمل المسبحة، ولم يتم توظيف أي عبارة أو آية أو نص ديني في تبرير قتل منار؛ وهو ما يفعله كثير ممن يعمَدون لتشويه الإسلام والتعاليم الدينية بالادعاء بأن جرائم قتل النساء تنبع من أفكار دينية أو بتحريض من المشايخ او من “الموروث” الثقافي الديني.
هذه أول رواية أقرأها لإبراهيم نصر الله، وقد كانت “شرفةً” أطللت منها على أدبه، الذي حتمًا ستكون لي مع باقي رواياته إطلالات أخرى.